بقلم اللواء ركن عرابي كلوب
ولد محمود الهمشري في قرية أم خالد بقضاء طولكرم عام 1938م وفي هذه القرية تلقى تعليمه الابتدائي ومن ثم انتقل وعائلته إلى طولكرم حيث أكمل تعليمه الثانوي هناك .
محمود الهمشري كان بديناً ويشكو أيضاً من قصر في قوة الإبصار تضطره للبس نظارات طبية باستمرار ومع ذلك كان يمشي في الليل على الجبال فتسقط أمامه الحدود والسدود وتنبسط أمامه الجبال .
محمود الهمشري كان يمشي ولم يكن ذلك بالأمر الصعب على قدميه ، فقد ولد يمشي فالمدارس كانت قليلة في قرى الضفة الغربية ولا بد للوصول لها من مسيرات يومية ، ومحمود كان تلميذاً والأرض والجبال لا يمكن أن يزرعها إلا من يستطيع المشي ، ومحمود كان فلاحاً نشطاً يعاون الرجال في أسرته الفقيرة .
ذهب إلى الكويت حيث عمل في سلك التعليم وأنتقل بعدها إلى الجزائر وعمل في نفس المجال العلمي , شارك في أول دورة عسكرية تدريبية لكوادر حركة فتح عام 1964م والتي انضم إليها وأشرف عليها الشهيد القائد /خليل الوزير( أبو جهاد ).
كان محمود الهمشري من أوائل اللذين عادوا إلى أرض الوطن بعد هزيمة حزيران عام 1967م وشارك في العمليات الفدائية , كان محمود الهمشري يشكل طاقة عالية من القدرة على التنظيم , وتم اختياره من قبل القيادة للدراسة في الجزائر حيث أصبح فيما بعد رئيساً لاتحاد الطلبة الفلسطينيين هناك , وخلال فترة وجوده في الجزائر الأولى والثانية أتقن محمود الهمشري اللغة الفرنسية , حيث التحق بعدها بجامعة السوربون في باريس وحصل على شهادة الدكتوراه وهناك نسج شبكة علاقات واسعة مع العديد من المنظمات السياسية الفرنسية وفي أواخر عام 1969م عين محمود الهمشري معتمداً لحركة فتح وممثلاً غير رسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا , حيث اتسع نشاطه حيث أمتد إلى بعض الدول الأوروبية الأخرى , ونجح في إقامة علاقات واسعة مع ممثلي الرأي العام الفرنسي واستمالة الكثير من النخب لصالح القضية الفلسطينية وكان بذلك مكملاً لدور زميله وائل زعيتر في روما .
حتى في باريس كان محمود الهمشري يمشي ولا بد من الحفاظ على الدوام ولا بد من مقاومة الترهل في المدينة وأفضل وسائل الحفاظ على النشاط الدائم هو المشي على الدوام … ثم الحياة في باريس ليست كالحياة في قرانا … كل شيء بثمن … كل خطوة بالنقد … والأوفر أن يمشي الإنسان ، لم يكن صعباً عليه المشي … لأنه كان فلاحاً وحراً وثائراً .
عندما وصل محمود الهمشري باريس كان قد تعلم الفرنسية في الجزائر وألقى بنفسه في خضم الجماهير الفرنسية وقواها ومثقفيها ، وعندما كان يتكلم محمود كان ينطق الفرنسية بلكنة فلسطينية واضحة ويصف الكلمات ببطء حتى يمكنه اختيار الكلمة المناسبة ، كان يفكر بالعربية حتى وإن تكلم الفرنسية ، وأصبح محمود فلاحاً يتكلم الفرنسية في باريس ، نعم تعلم الفلاح الفرنسية على كبر .
كان محمود الهمشري وجهاً مشرقاً لثورته وفاعلاً نشطاً حيث لم تكن ساحة نضاله بعيدة عن الرصاص والدم .
محمود الهمشري ذلك المناضل الذي بنى أعمق العلاقات وأمتنها مع جميع القوى المناضلة واليسارية والوطنية في فرنسا .
كان القلق والتوتر يصيب الإسرائيليين إذا استطاع أي فلسطيني مخاطبة العقل الأوروبي والأمريكي ويتفاعل مع القوى السياسية والأحزاب والمنظمات في هذه البلدان , وكأن الإسرائيليين يريدون بناء جدار فاصل بين الفلسطينيين وبقية العالم حتى لا تنكشف حقائق هذا الكيان العنصري , ووجود شعب هو صاحب الحق في هذه الأرض منذ بداية التاريخ , وإن العصابات الصهيونية هي التي استولت على فلسطين بالإرهاب ’ واستطاع العديد من الفلسطينيين أن يجتازوا أسوار الحصار الإسرائيلي والوصول إلى بعض المجتمعات اليهودية في أوروبا , ومع العديد من الأحزاب والجمعيات , ومن هؤلاء القادة الطليعيين الدكتور / محمود الهمشري .
لقد كانت عناصر جهاز الموساد الإسرائيلي بالمرصاد يراقبون نشاط محمود الهمشري يوما بيوم , لقد أغاظهم هذا النشاط لان تأثيره كان أكثر من القنابل , وقد أدى هذا النشاط إلى زيادة التعاطف والاهتمام بالقضية الفلسطينية ووضع أسمه على لائحة الاغتيالات , وكان الموساد قد عجز عن توجيه ضربات انتقامية لمخططي العمليات الخارجية ضد أهداف إسرائيلية فقرر تصفية سياسيين وناشطين بارزين فلسطينيين وكان الدكتور محمود الهمشري من هذه الشخصيات .
كان الدكتور محمود الهمشري هدفاً سهلاً للموساد الإسرائيلي بحكم عمله السياسي والدبلوماسي ولم يحمه وجوده الدبلوماسي في فرنسا من قبضة الموساد الإسرائيلي , فقد استخدم الموساد حيلة بسيطة للإيقاع به , فقبل الاغتيال أتصل به شخص منتحلاً صفة صحافي إيطالي طالباً أجراء مقابلة معه , وتم تحديد مكان اللقاء وفي هذه الأثناء ضمن عملاء جهاز الموساد غياب الدكتور محمود الهمشري وكذلك زوجته وابنته عن المنزل حيث قام العملاء بدخول المنزل بعد مراقبة طويلة ووضعوا قنبلة شديدة الانفجار يتم التحكم فيها عن بعد في جهاز هاتف منزله حيث تنفجر عند رفع السماعة والتأكد من أن المقصود هو الدكتور محمود الهمشري .
وفي الساعة التاسعة صباحاً من يوم 8/12/1972م رن جرس الهاتف في المنزل , حيث التقط د. محمود الهمشري السماعة فانفجرت الشحنة وأصابته بجروح بليغة , نقل على أثرها إلى مستشفى ( كوشن ) في باريس حيث توفي متأثراً بجروحه بعد شهر بتاريخ 10/1/1973م من الحادث .
فقد كان لنبأ استشهاد الدكتور محمود الهمشري صدى عنيفاً بين جميع الأوساط سواء في فرنسا أو في أوروبا ، تلك الأوساط التي عرفت الهمشري مناضلاً وداعية وسياسياً يحسن نقل قضية بلاده وصياغتها وتلخيصها ببساطة وحسم .
لقد أثار استشهاد المناضل محمود الهمشري على يد المخابرات الصهيونية موجة من ردود الفعل داخل فرنسا وغيرها ، ونعت حركة فتح المناضل الهمشري كأحد الرجال الأوائل الذين مضوا يناضلون في صفوف الحركة من أجل القضية المقدسة التي حمل شعبنا السلاح في سبيلها .
بعد استشهاده حظي بتكريم بعض الجهات فمنح جائزة (فلسطين – محمود الهمشري ) تكريماً له بعد نشر كتابه , وأنشأت الجائزة جمعية التضامن العربية الفرنسية ومجلة فرنسا والبلاد العربية بعد اغتيال الدكتور محمود الهمشري .
تم دفن الشهيد محمود الهمشري في إحدى مقابر باريس حيث سيظل شاهداً على نضاله الوطني وإن طال الزمن ، فسوف يأتي اليوم الذي تجيء فيه الوفود من فرنسا إلى فلسطين خلف جثمان الشهيد محمود ، وسيأتي اليوم الذي يطلق فيه اسم الشهيد محمود الهمشري على ساحات مدن فلسطين المحررة وكذلك اليوم الذي يرتفع فيه اسمه عالياً على قصور الثقافة ومجالس المثقفين .
لقد كانت رغبة الشهيد محمود الهمشري أن يدفن في طولكرم حال استشهاده إلا أنه وصلت رسالة للسيدة ماري كلود زوجة الشهيد من الصليب الأحمر الدولي تبلغها رسمياً الرفض النهائي من سلطات الاحتلال الإسرائيلي لنقل جثمان الشهيد الهمشري إلى طولكرم حيث طلب أن يوارى جثمانه هناك .
ترك الشهيد محمود الهمشري خلفه زوجته الفرنسية ماري كلود وابنته الصغيرة التي لا يتعدى عمرها في ذلك الوقت خمسة عشر أسبوعاً .
لقد كان محمود الهمشري صادقاً دائماً وبسيطاً ووفياً لأرض فلسطين ولذلك كان صوته يصل إلى كثير من الناس في فرنسا وفي أوروبا دون عناء ويلامس قناعاتهم وأحاسيسهم .
محمود الهمشري مثقف ثوري ، يمارس ما يقول ، ويجيد القتال والسياسة ، قاتل في فلسطين وناضل في باريس ، وعندما استشهد وائل زعيتر شعر بعبء مسؤولية سد الفراغ .
رحمك الله يا د.الهمشري وأسكنك فسيح جنانه ..