بقلم اللواء ركن عرابي كلوب
محجوب عمر هو الاسم الذي إستشهر به الدكتور / رؤوف نظمي ميخائيل عبد الملك صليب , والذي ولد في المنيا بصعيد مصر بتاريخ 8/4/1932, حيث انتقل رؤوف نظمي مع أسرته إلى القاهرة ونشأ في الحي الشعبي حي الزهور بالسبتية حيث كان والده رئيس لجنة الوفد وساهم في ثورة 1919م آنذاك .
في الجامعة التي دخلها رؤوف نظمي في أكتوبر عام 1948م كطالب في كلية الطب تأثر كثيراً بالهزيمة في فلسطين عام 1948م حيث التقى بقائد اللجان الشعبية للمقاومة الوطنية التابعة للحزب الشيوعي المصري , كانت هذه اللجان تعمل في إطار الكفاح المسلح الذي انطلق فيما بعد عامي 1950,1951 و الموجة ضد القوات البريطانية في منطقة القنال , وكان هذا أول عهد ل رؤوف نظمي ميخائيل بذلك .
أصبح رؤوف نظمي مسؤول التنظيم في الجامعة عام 1952م وعضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي , القي القبض عليه في نوفمبر عام 1954م , وبعدها أفرج عنه ألا أنه تتالت محطات الاعتقال إلى أن تم الإفراج عنه عام 1964م , عمل رؤوف نظمي طبيباً بعد أن كان قد تخرج من الجامعة وذلك في مستشفى بنها ومستشفى دمياط إلى أن اضطر إلى تقديم استقالته عام 1967 بناءً على طلب السلطات منه .
بعد هزيمة حزيران عام 1967م قرر د. محجوب عمر السفر إلى الجزائر للعمل كطبيب , ومنذ وصوله إلى الجزائر بدأ يتعجل للالتحاق بالمقاومة الفلسطينية حيث كتب رسالة إلى صديق عمره د. قدري حفني قبل أن يلتحق بالثورة الفلسطينية مباشرة يقول فيها ( لن أعود إلا إذا تعودت آذناي صفير المدافع والطائرات والصواريخ , وتلطخت يداي بالدم والطين , وأكلت من عشب الأرض , وشربت دموع أطفال اللاجئين , حينئذ قد أعود , بل سأعود ربما عن طريق يسده العدو اليوم , هكذا كانت الأمنية وكان الحلم ).
وأخيراً تحققت الأمنية وحسم الأمر ومضى للالتحاق بالثورة متفرغاً في حركة فتح بتاريخ 21/5/1969م حيث حضر إلى الأردن والتحق بالقطاع الجنوبي حيث عمل مفوضاَ سياسياً بالإضافة إلى مهنته كطبيب وكسب احترام المقاتلين والقيادات .
عاش د. محجوب عمر معركة أيلول الأسود عام 1970م في عمان بكل مآسيها حيث عمل في مستشفى الأشرفية أثناء الأحداث , وكان يتابع تنقلاته بين المقاتلين ويعالج جرحاهم ويشد من أزرهم ولم تفارقه الابتسامة يوماً .
انتقل د. محجوب عمر مع قوات الثورة الفلسطينية إلى لبنان بعد أن تم تفية الوجود المسلح للثورة الفلسطينية في الأردن, عمل في القواعد بجنوب لبنان وجبل الشيخ , انتقل للعمل في مركز التخطيط الفلسطيني في بيروت حيث عين نائباً لمدير عام مركز التخطيط ومستشاراً للرئيس /ياسر عرفات وكان في ذلك الوقت مقرباً من القائد /خليل الوزير ( أبو جهاد ) .
بعد حرب لبنان عام 1982م ومغادرة قوات الثورة الفلسطينية أثر الاجتياح الإسرائيلي غادر د. محجوب عمر وزوجته إلى القاهرة وسكن في حي السيدة زينب وأسس فرعاً لمركز الدراسات الفلسطينية في القاهرة , من خلال تواجده في القاهرة كان يحرر مقالاً أسبوعياً في جريدة الشعب المصرية وجريدة القدس العربي متابعاً فيه تطورات الوضع في فلسطين .
قام د.محجوب عمر بتأليف عشرات الكتب وكذلك قام بترجمة العشرات منها إلى اللغات الأجنبية , وقام بإصدار مجموعة كبيرة من قصص الأطفال .
بعد عودة قوات م.ت.ف إلى أرض الوطن وتوقيع اتفاق أوسلو حضر د. محجوب عمر وزوجته إلى قطاع غزة وأقام فيها بضعة أشهر كما قام بزيارة إلى الضفة الغربية وذهب إلى مدينة القدس ومدينة بيت لحم ,وفي آخر زيارة له إلى قطاع غزة أصيب د. محجوب عمر بجلطة دماغية أدخل على أثرها إلى مستشفى الشفاء ومن ثم نقل إلى العلاج في القاهرة .
د. محجوب عمر المناضل العربي الكبير, المسيحي القبطي , الطبيب المفكر الاستراتيجي , الكاتب , القائد الميداني , كان قدوة المناضلين والمثقفين والمفكرين .
تميز د.محجوب عمر بأفق واسع , وقلب كبير , وروح تتسع للاختلافات ما بين الفئات المختلفة , ولهذا كله ظفر بتقدير الجميع .
د. محجوب عمر شخصية وطنية قومية مناضلة ومن الرواد الأوائل الذين حملوا راية النضال للدفاع عن الأرض والإنسان .
كان د.محجوب عمر إنساناً نادراً , ورجلاً مفتوح العقل والقلب , كان يحمل قضية فلسطين أينما ذهب وحل , وخصص كل مقالاته في الصحف المصرية للدعوة كي تستعيد القضية مكانتها ونجح في مسعاه .
كان يؤمن بأن الكلمة كالرصاصة إذا انطلقت لا سبيل لردها أو احتواء ما قد تحدثه من ضرر أو إصابات وأنه خير للإنسان أن يتحكم فيما يقول ويفكر قبل أن ينطق .
لقد عرفه المناضلون في القواعد موجهاً ومثقفاً سياسياً , وعرفه المقاتلون ممتشقاً سلاحه , وعرفه السياسيون بخططه وبفكره السياسي , كان مختلفاً عن غيره بتفائله الدائم وثقافته وسعة اطلاعه , وانتمائه للقضية الفلسطينية ودفاعه عن قضايا العدالة في العالم .
كان له حضور كبير في المحافل الدولية والعربية وساهم بشكل كبير في الوصول إلى ما وصلت إليه القضية الفلسطينية .
كان د. محجوب عمر زاهداَ يعيش حياة تقشف , كان متواضعاً نظيف اليد والنفس عفيف اللسان .
لقد كان د. محجوب عمر من المفكرين اللذين أسهموا إسهامات كبيرة في دفع الثقافة العربية والنضالية في المنطقة إلى الأمام , وقد ساهم في كتاباته وترجماته في تنوير وبلورة الرأي العام المصري والعربي عن القضية الفلسطينية وتداعياتها الدولية .
كان يؤمن د.محجوب عمر أن المعركة مع العدو الإسرائيلي ليست معركة بالسلاح فقط وإنما هي معركة بالكلمة والمعلومة والفكرة أيضاً , باختصار كان يدرك ماذا تعني كلمة معركة المصير .
لم يكن د.محجوب عمر سياسياً بالمطلق , ولا طبيب بالمطلق , ولا عسكرياً بالمطلق , ولا كاتباً بالمطلق , بل كان كل ذلك , وفي كل ذلك كان مبدعاً , ذواقاً , رهيفاً , وصاحب رؤية , والأهم من ذلك أنه كان إنساناً يعشق الأطفال ويحترم المرأة .
واجه د. محجوب عمر متاعب كثيرة واتهامات متعددة تحملها بكل صبر عجيب رغم أن البعض حاربوه وقاطعوه وحاولوا تشويه صورته وتحطيمه , حيث لم يتخلى مطلقاً عن استقلاليته في الرأي والموقف حتى ولو تعارض مع مواقف رواد الحركة الماركسية هذا التيار الذي كان ينتمي إليه .
محجوب عمر كان سفيراً في أيقونة النضال الفلسطيني , يجيد فن التعامل مع الجمهور البسيط , يبلسم أوضاع اللحظة ببسمة مرشحة على محياة بالأمل المشرق الآتي حتماً , مؤمناً بحتمية الانتصار , وإن كان الدرب ما زال طويلاً .
رحل د.محجوب عمر عن عمر يناهز الثمانين عاماً , رحل بصمت وترجل الفارس النبيل الذي استحق فلسطينيته بالطرق غير التقليدية وذلك صباح السبت الموافق 17/3/2012م في مستشفى فلسطين بالقاهرة لقد فقدت الثورة الفلسطينية وحركة النهضة العربية برحيله مناضلاً وفارساً ترجل قبل استكمال رسالته الحضارية لجميع مناضلي امتنا العربية وجميع الأحرار في العالم .
وتقديراًللمفكر الكبيرفقدكُرم من قبل الرئيس /ياسر عرفات بوسام القدس للإبداع الثقافي عام 2004م وهو أرفع وسام يمنح في الثورة الفلسطينية تقديراً وتكريماً لدوره الكبير وفكره القومي الأصيل من أجل تحقيق تطلعات شعبنا الفلسطيني بقيام دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف .
محجوب عمر .. يا شموخ مصر , وكبرياء النيل , رحيلك أعاد لنا الذكرى الجميلة للمعنى المتوقد بالفعل الثوري والنضال والسلوك الملتزم في زمن الانهيار والانهزام , فأنت من بحث عن بوتقة النضال بالخلية الأولى لإطلاق النار على التخاذل والاستسلام , وأنت من مارس المقاومة بمنطق فلسفي بعيداً عن الفعل الغوغاني للتنظير الكلامي الأجوف .
وداعاً يا د. محجوب عمر ( رؤوف نظمي ميخائيل ) يا مفخرة تستحق بجدارة تقدير واحترام , وداعاً لذلك القلب الكبير الصادق الشجاع العاشق العذري لفلسطين , وداعاً أيها المناضل النبيل الذي شغلت أرفع المناصب في وجدان كل ثوري مخلص وفي وجدان كل إنسان عادي .
لقد ترك د. محجوب عمر ميراثاً كبيراً من السيرة الذاتية المتألقة ومن الكتب والدراسات والأبحاث.
طوبى لمن آمن وأخلص … طوبى لمن آمن بالله والشعب …
طوبى لمن عمل بكل جوارحه وأيمانه بأن الحق أقوى … طوبى لمن عمل لك يا فلسطين في كل الأرض .
المجد لله في العلا … وعلى الأرض السلام
كان د. محجوب عمر وأرتحل بكل التقديس والتبجيل
رحمك الله يا د. محجوب عمر ولروحك السلام .