بقلم اللواء ركن عرابي كلوب
ولد / حيدر محي الدين عبد الشافي في مدينة غزة بتاريخ 10/6/1919م حيث كان والده يعمل مأمور أوقاف في غزة ، انتقل مع الأسرة إلى الخليل عام 1925م حيث درس المرحلة الابتدائية هناك وكانت من أجمل سنين طفولته الأولى ، عادت الأسرة إلى غزة عام 1929م حيث أكمل تعليمه حتى الصف الثاني الثانوي وعام 1936م ، ذهب إلى القدس للدراسة في الكلية العربية إلا أن الكلية أقفلت أبوابها بسبب ثورة 1936م مما حدا به السفر إلى بيروت لإكمال دراسته الثانوية في الصف الرابع الثانوي القسم العلمي وبعد نجاحه التحق بالجامعة الأمريكية لدراسة الطب التي تخرج منها في حزيران عام 1943م .
بعد التخرج عمل د. حيدر عبد الشافي في مستشفى الحكومة في مدينة يافا لمدة ستة أشهر قبل أن يلتحق بلواء السيارات التابع للجيش الأردني وبعدها انتقل للعمل في الكتيبة الثانية .
عام 1949م سافر د. حيدر إلى أمريكا وبقي هناك حتى عام 1954م عاد بعدها إلى غزة ليعمل طبيباً في مستشفى تل الزهور ومنها انتقل إلى العمل الخاص ، وبعد العدوان الثلاثي على مصر والقطاع عام 1956م وجلاء المحتل وعودة الإدارة المصرية للقطاع أسند إليه منصب رئاسة أطباء القطاع وبعدها عين مديراً للصحة وأصبح عضواً في المجلس التنفيذي لإدارة شؤون قطاع غزة تحت إشراف الحاكم الإداري العام للقطاع .
في نهاية عام 1958م وبداية عام 1959م تم تشكيل مجلس تشريعي معين للقطاع ولم يدم هذا المجلس سوى عام ، وبعدها تم المصادقة على تشكيل المجلس التشريعي في قطاع غزة في شهر يونيو عام 1962م وكان نصفه من المنتخبين والنصف الآخر بالتعيين وعليه فقد رشح د. حيدر نفسه في هذه الانتخابات ونجح فيها ، استمر المجلس لمدة عامين من 1962-1963م وكان د. حيدر رئيساً له وعام 1964م عندما حصلت الانتخابات أصبح د. حيدر رئيساً للمجلس للدورة الجديدة مرة ثانية .
عند انعقاد المؤتمر الأول وانبثاق منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م أصبح أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني في قطاع غزة أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية ، حيث عين د. حيدر عبد الشافي عضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة .
بعد عدوان حزيران عام 1967م أسس د. حيدر عبد الشافي جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في القطاع وبدأ نشاطه السياسي في مقارعة العدو ، حيث صدر أمراً عسكرياً بتجميد الجمعية وتم إبعاده إلى سيناء مع آخرين حيث اعتبر نشاطه مخلاً بالأمن الإسرائيلي ، عاد بعدها إلى القطاع ومن ثم أبعد مرة ثانية إلى لبنان حيث مكث ستة أشهر وبعد تدخل من الأمم المتحدة عاد إلى قطاع غزة .
كان للدكتور / حيدر دوراً بارزاً في تشكيل لجنة التوجيه الوطني والجبهة الوطنية في منتصف السبعينيات الأمر الذي أدى إلى بلورة قيادة وطنية من رؤساء البلديات المنتخبين في الأرض المحتلة .
شارك د. حيدر عبد الشافي في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991م في أسبانيا حيث كان رئيساً للوفد الفلسطيني وطالب في كلمته التي ألقاها أمام الحاضرين في المؤتمر بحق الفلسطينيين في تقرير المصير والعودة وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس .
بعد اتفاق أوسلو وعودة قيادة المنظمة وتشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية أجريت الانتخابات التشريعية الأولى في ظل السلطة عام 1996م والخاصة بانتخابات أعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني حيث رشح د. حيدر نفسه لهذه الانتخابات وحصل فيها على أعلى الأصوات ، حيث كان مستنداً على حس الجماهير وعلى مصداقيته وعلى نبض الشارع رغم أن عملية الانتخابات لم يتخللها أية إعلانات أو ملصقات له .
استقال د. حيدر عبد الشافي من عضوية المجلس التشريعي في شهر سبتمبر عام 1998م عندما لم يستطع تأدية واجبه في معالجة الكثير من قضايا الفساد في المجلس التشريعي وذلك بصورة ودية حيث اتخذ موقفاً نوعياً جريئاً وأعلن الاستقالة .
شغل د. حيدر عبد الشافي مناصب عدة في العديد من المؤسسات الوطنية من بينها عضو مجلس أمناء جامعة بيرزيت ، كما ساهم في تأسيس الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان وكان مفوضها العام ، والجمعية الوطنية لتأهيل المعاقين حيث ساهم في تأسيسها وكان رئيس مجلس إدارتها لمدة طويلة .
كان د. حيدر عبد الشافي زاهداً في الحياة متواضعاً لأبسط الأشياء وبعيداً عن الاستعراضية ، مدركاً لأهمية استثمار الجهد والوقت في سبيل العمل الوطني والاجتماعي والمصلحة العامة .
كان د. حيدر نموذجاً للعمل المنظم الهادئ المتزن الصامت بعيداً عن كل أشكال الاستعراض أو حب الظهور ، لقد كان د. حيدر رمزاً للنزاهة والاستقامة والمصداقية ، كان صاحب الرأي الشجاع والمدافع الصلب عن حقوق الشعب طيلة العمل المتواصل في شتى المواقع المختلفة .
د. حيدر عبد الشافي كان عطوفاً وحانياً في أسرته ولكنه كان معلماً ومرشداً خاصة بضرورة تركيزه على احترام قيم العمل والتعليم والإخلاص والانضباط واحترام الوقت والجهد والقضايا الهامة والمفيدة والالتفات إلى مصالح المواطنين وخاصة منهم الفقراء وأبناء الشهداء والجرحى وأسر المعتقلين.
كان د. حيدر يؤمن بالخيار الوطني الوحدوي ، فقد كان نموذجاً بالعمل الأهلي حيث كرس جزء كبير من وقته للمنظمات الأهلية التي آمن بدورها في الصمود والمقاومة وبلورة الهوية الفلسطينية في مواجهة سياسة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة .
رسالته كانت دائماً تقول يجب التمسك والإصرار على تطبيق النظام العام واحترام القانون والقيم الديمقراطية ، ولا يجوز لأي كان بتجاوز حدود هذا النظام لأن تجاوزه دائماً يسبب الفرق في الطموحات الذاتية حيث لا يمكن أن يتم إفساح المجال لهذه الطموحات الخاصة على حساب الصالح العام .
كان د. حيدر يؤمن بأهمية بناء الأجيال القادمة ، وكان يركز على أهمية البدء من الطفل ومن معلم المدرسة الابتدائية حيث أن ذلك يساعد في ترسيخ مفاهيم إيجابية لدى الأجيال الصاعدة .
كان د. حيدر يملك حساً ورؤية ثاقبة تشير إلى صفاء الذهن والتفكير العميق ، وكان يربط هذا التفكير بالممارسة الجادة والقدرة على المثابرة وتقديم الأفكار في إطار لا يعرف الكلل أو اليأس ، وكان صادقاً ومنضبطاً مع نفسه ، يتقن تقسيم الوقت واستخدامه وتوظيفه أفضل توظيف .
لقد ركز وباستمرار على الوحدة الوطنية وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني واحترام القانون وحقوق الإنسان .
د. حيدر عبد الشافي تزوج عام 1957م وزرق بثلاثة أولاد وبنت وهم ( خالد،طارق،صلاح،هند).
قلده الرئيس / محمود عباس ( أبو مازن ) وسام نجمة الشرف تقديراً لدوره الكبير وعطائه المميز في خدمة الشعب الفلسطيني ونضاله لنيل حقوقه الوطنية العادلة ، ودوره النضالي من خلال مواقعه التي شغلها ومن بينها تأسيسه ورئاسته للمبادرة الوطنية الفلسطينية .
انتقل د. حيدر عبد الشافي إلى رحمة الله تعالى بتاريخ 25/9/2007م في مدينة غزة بعد معاناة مع المرض وتم دفن جثمانه الطاهر في مقبرة الشهداء شرق مدينة غزة بتاريخ 27/9/2007م بمشاركة جماهير غفيرة وقيادات فلسطينية وطنية .
رحل د. حيدر عبد الشافي في وقت نحن أحوج ما نكون بحاجة إليه .
لقد احتل القائد الوطني الكبير د. حيدر مكانة مرموقة في صفوف الشعب الفلسطيني والحركة الوطنية قاطبة على مدى هذا الزمن الطويل ، ولهذا لا بد أن يكون رجلاً تصالحياً وتوافقياً وتسامحياً ، طالما أن القضايا والمسائل في مصلحة الشعب والوطن والقضية ، ولم يكن من المتصــــــــــــور أن يتربــــــــــع د. حيدر على هذا الموقع لنصف قرن من الكفاح الوطني لولا أن شخصيته قد جمعت بين صفات الوطنية الصادقة والإخلاص للقضية والتمسك بقضايا الناس وهمومهم على أسس من الديمقراطية والتفاعل والحوار الذي يبتغي مصلحة الكل الوطني الفلسطيني .
ومن خلال هذه السيرة العطرة والطيبة لهذا القائد الفذ الشجاع لا بد لنا من الحفاظ على المبادئ والقيم والتجارب التي تركها لنا الراحل الكبير واستلهام المعاني والعبر والدروس المستفادة في مسيرته حتى تكون نموذجاً للأجيال القادمة .
رحمك الله يا د. حيدر وأسكنك فسيح جناته .. ولا نقول وداعاً … بل نقول إلى اللقاء
كذلك تم تكريم د. حيدر عبد الشافي بإطلاق اسمه على كلية الطب في جامعة الأزهر بغزة لتصبح كلية د. حيدر عبد الشافي لطب الفم والأسنان .