بقلم اللواء ركن عرابي كلوب
ولد/ “فتحي عرفات” وأسمه الحقيقي عبدالفتاح عبدالرؤوف داوود عرفات القدوة الحسيني في مدينة القدس بتاريخ 1933/1/1م وهو الشقيق الأصغر لياسر عرفات حيث توفيت والدته زهوة ابو السعود وهو طفلاً رضيعاً لا يتجاوز عمره الثلاثة أشهر، بعد وفاة والدته طلب شقيقها سليم أبو السعود من والده/ عبدالرؤوف أن يعيش ولداه ياسر وفتحي تحت رعاية خالهما سليم أبو السعود وزوجته السيد رقية مغربية الجنسية واللذان لم يرزقا بأطفال.
غادر كل من فتحي عرفات مع شقيقه ياسر عرفات إلى القاهرة عام 1937 بصحبة خالهما راجي أبو السعود وذلك بعد ان تم اعتقال خالهما الأول/ سليم من قبل الاحتلال البريطاني وذلك للالتحاق بوالده وبقية اشقاءه، يقول فتحي عرفات “كان اليوم الذي التقى فيه والدي لأول مرة وأمسكت أنعام بي واحتضنتني” أكمل فتحي دراسته في مصر وبعد أن حصل على الثانوية العامة التحق بكلية الطب حيث تخرج منها عام 1962، غادر بعدها إلى دولة الكويت للعمل هناك.
التحق فتحي عرفات منذ البدايات بحركة فتح في الكويت، ومنذ أن اشتد ساعد الثورة الفلسطينية بعد هزيمة عام 1967م ترك د. فتحي العمل في الكويت وتوجه إلى سوريا والأردن حيث تتواجد قوات الثورة الفلسطينية وتفرغ في صفوف الثورة الفلسطينية ليس مقاتلاً بالسلاح وإنما ليبلسم جراح شعبه النازف بفعل ممارسات الاحتلال وتهجيره الفلسطينيين من مدنهم وقراهم لإدراكه أن العمل الإنساني وتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية لأبناء شعبه لا تقل شأناً عن النضال السياسي والعسكري من أجل الحرية والاستقلال الوطني.
كانت بداية نضاله الإنساني تأسيسه لنواة الخدمات الطبية في حركة فتح، ثم أدرك هو وأخوه له أهمية أن لا يحصروا نشاطهم ضمن دائرة ضيقة تقتصر على علاج الجرحى، بل يتعداها ليشمل ليس أسرهم وعائلاتهم، فحسب وإنما أبناء شعبهم الفلسطيني في مخيمات الأردن وسورية ولبنان والتجمعات الفلسطينية في الدول العربية الأخرى، وبناءً على ذلك تبلورت هذه الفكرة ونضجت في عقل د. فتحي وباقي الأخوة من مؤسسي جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني وواضعي اللبنة الأولى في صرحها.
وتجسدت الفكرة ببدايات متواضعة تمثلت بإنشاء أول عيادة للجمعية في مخيم ماركا (شنلر) الواقع في ضواحي العاصمة عمان، معتمدين في ذلك على دعم شعبهم لهم وجهود شبان المخيم.
لقد كرس الراحل كل جهده لإنجاح العمل الوطني والإنساني وكانت النتائج فعلاً تفوق التصورات، الأمر الذي شجعه وشجع المؤسسين الأوائل على افتتاح أكثر من عيادة ومستوصف ومركز ومستشفى في أكثر من مدينة ومخيم في الأردن.
وفي الوقت الذي كان يجري العمل فيه في منشآت الجمعية في الأردن وتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية، كانت توضع الخطط لتأسيس منشآت صحية واجتماعية مماثلة لخدمة أبناء المخيمات والتجمعات الفلسطينية في سورية ولبنان ومصر، وكان يجري تنفيذ هذه الخطط مباشرة بعد اكتمالها، بجهد وعمل وأشراف الراحل شخصياً، وجهود رفاقه من الرواد الأوائل مدعومين في كل محطة من محطات البناء بأبناء شعبهم المعطاء.
وما أن حل تاريخ السادس والعشرين من شهر كانون أول عام 1968م وهو موعد الإعلان الرسمي عن جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني إلَّا وكانت أكثر من عيادة ومؤسسة صحية واجتماعية مجسدة على أرض الواقع تقدم خدماتها لمستحقيها من أبناء المخيمات ومنذ ذلك التاريخ أخذت العيادات والمراكز والمستوصفات تنبت كالفطر في تجمعات الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده وخاصة في لبنان وسورية ومصر والسودان وأخذت خدماتها تتطور كماً ونوعاً، بحيث غدت الجمعية تقوم بعمل وزارتي صحة وشئون اجتماعية، ويعتمد عليها أبناء المخيمات أعتماداً كلياً، من جهة احتياجاتهم الصحية والاجتماعية.
وبفضل خدماتها المجسدة على أرض الواقع في المخيمات والتجمعات الفلسطينية، وجهود الراحل شخصياً تم اعتماد الجمعية من قِبل المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السادسة التي عقدت في القاهرة عام 1969م بوصفها الجهة الرسمية المسؤولة عن صحة الشعب الفلسطيني في منظمة التحرير الفلسطينية.
وطيلة مسيرته الإنسانية على رأس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني لم يترك الراحل أمور الجمعية للصدف، وإنما كان يبادر إلى وضع الخطط والبرامج المستقبلية لأنشطة وفعاليات الجمعية وعلى الصعد كافة وخصوصاً الصحية والاجتماعية لتدارك الإرباك في العمل، وعدم تأثير الأحداث الطارئة على الخدمات التي تقدمها.. وعليه كانت مستشفيات وعيادات ومراكز الجمعية على أهبة الاستعداد ولكل طارئ وخصوصاً في لبنان عندما كان يتعرض الشعب الفلسطيني ومؤسساته هناك للاعتداءات والقصف من قبل الجيش الإسرائيلي وكانت لدى الجمعية دوماً مراكز وعيادات ومستشفيات ميدانية بديلة لتلك التي تقصف وتدمر من قِبل قوات الاحتلال الاسرائيلي.
وبناءً على هذه الاستراتيجية لم يرتبك عمل الجمعية خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت العام 1982م جراء تدمير عدد كبير من منشآتها بفعل الاعتداءات الواسعة ولم تؤثر كثيراً على الخدمات التي تقدمها في هكذا أوضاع، وخصوصاً في مجالي الصحة والإسعاف وذلك بسبب المراكز الصحية والمستشفيات البديلة التي أنشأتها الجمعية لمواجهة الأعباء الصحية للاجتياح الاسرائيلي ونذكر على سبيل المثال لا الحصر أنه خلال حصار بيروت أنشأت الجمعية أكثر من 28 مستشفى ميدانياً لإسعاف الجرحى والمصابين واجراء العمليات الطارئة لهم، كان أغلبها يتم على ضوء الشموع بسبب قطع التيار الكهربائي عن العاصمة اللبنانية.
وكل هذا الجهد الإنساني كان يتم بأيد فلسطينية خبيرة، استمدتها من تجاربها السابقة ومن تعاملها مع ضحايا الاعتداءات الاسرائيلية في الأردن وسورية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي.
لقد ارتبطت انجازات جمعية الهلال الأحمر الحضارية والإنسانية لشعبنا وجمعيته باسم الراحل د. فتحي عرفات، فلا تذكر جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني الَّا ويرتبط اسمه باسمها.. لقد تماهت شخصيته بكيان الجمعية بحيث أصبحت جل اهتماماته، وكانت على حساب حياته الخاصة وحياة أسرته، لقد كان تطوير وتوسيع عمل الجمعية شغله الشاغل.
أما بالنسبة لتوظيف مكانته وإمكاناته لدعم مشاريع الجمعية فهو كان حريصاً أشد الحرص على تمتين علاقات الجمعية بشقيقاتها العربيات وبالمؤسسات الإنسانية والأهلية والحكومية وكذلك بالدول الأجنبية وبجمعياتها الوطنية ومؤسساتها الإنسانية وكان بارعاً في كسب الأصدقاء من مختلف الجنسيات بهدف تجييرها لصالح جمعية الهلال الأحمر.
لقد أستطاع الراحل د. فتحي عرفات أن يبرز الجانب الإنساني في نضال الشعب الفلسطيني من أجل الاستقلال الوطني ويجسد اسم فلسطين في أذهان الألوف ممن شاركوا في هذه الفعاليات وبالتالي في المؤسسات التي يمثلوا فيها وبهمة الشباب التي كانت سمة بارزة ملازمة له طيلة حياته حتى وهو قابض على الجمر من شدة الألم من المرض الذي ألم به، نجح في تمكين فلسطين وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني من أن تتبوأ مكانتها في المنظمات الإنسانية العربية والدولية سواء بالعضوية الكاملة في منظمة جمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر العربية أو تلك التابعة لدول عدم الإنحياز، أو بالعضوية المراقبة في الاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر ومنظمة الصحة العالمية.
بعد الخروج من بيروت عام 1982م وانتشار قوات الثورة الفلسطينية في عدة دول عربية آثر المرحوم على إقامة مستشفيات في تلك الدول لخدمة القوات العسكرية وعائلاتهم.
وعقب انتقال قيادة الشعب الفلسطيني من المنافي والشتات إلى أرض الوطن عام 1994م وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية وعودته إلى فلسطين عمل الراحل د. فتحي عرفات بدأب على توحيد عمل فروع الهلال الأحمر في الضفة الغربية وقطاع غزة ضمن الجمعية الأم وكرس هذا الجهد في المؤتمر العام السابع للجمعية في خان يونس عام 1996م وتعزز في المؤتمر العام الثامن الذي عقد في غزة عام 2000م.
ومثلما أنجزت قيادة الجمعية برئاسته عشرات العيادات والمستشفيات والمراكز الصحية والأجتماعية في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان وسورية ومصر مثل: مجمع عكا ومجمع حيفا ومستشفى غزة، ومستشفى الهمشري في لبنان ومجمع دير ياسين ومستشفى يافا في دمشق ومستشفى فلسطين في مصر وغيرها من المؤسسات الأخرى فعلت الأمر نفسه في الضفة الغربية وقطاع غزة وأبرزها أنشاء مدينة الأمل الطبية في خان يونس التي تضم مستشفى الأمل وكلية تنمية القدرات ومراكز التأهيل وتنمية القدرات والورش التابعة له وغيرها من الأقسام، ومجمع مدينة النور في مدينة غزة التي تشمل مستشفى القدس وكلية الفالوجا للتمريض ومركز التراث ومركز الإسعاف والطوارئ والمقر الجديد لفرع الجمعية في نابلس والمبنى الجديد للمقر العام للجمعية في البيرة الذي يعتبر صرحاً صحياً واجتماعياً يعكس البعد الإنساني والحضاري للجمعية والشعب الفلسطيني وغيرها من المنجزات العديدة.
لقد أرسى د. فتحي عرفات نهجاً تعاملت معه الجمعية مع ضحايا الأجتياح الإسرائيلي لمدن وبلدات وقرى الضفة الغربية واعتداءات قوات الاحتلال المتكررة على مدن ومخيمات قطاع غزة، وبالرغم من سياسة الحصار وتقطيع أوصال المناطق الفلسطينية عملت مراكز الجمعية المختلفة وخصوصاً طواقم الإسعاف والطوارئ بكل طاقتها لبلسمة جراح الشعب الفلسطيني وتخفيف آلامه.
لقد ساهمت جمعية الهلال الأحمر بتجسيد الرقص الشعبي الذي يجيده ابناء وبنات شعبنا الفلسطيني فقام بتأسيس أكثر من فرقة لتقدم ابداعاتها في احتفالات الجمعية وأهتم كذلك بالفن التشكيلي لتقديم لوحات عن تراث فلسطين في المعارض الدولية، كذلك لم يتوقف الأمر على الرسم فحسب وبل شمل باقي الفنون من النحت إلى الحفر على الخشب وصناعة الألعاب المختلفة للأطفال.
كذلك قامت الجمعية بإنتاج أكثر من عشرة أفلام توزعت بين السينما والفيديو، وعلى هذا كان لا تخلو مؤسسة من مؤسسات الجمعية أو مستشفياتها أو مراكزها من نشاط ثقافي أو فني مكمل لعملها الصحي والاجتماعي.
– في عام 1972م أصبح د. فتحي عرفات الأمين الفخري للمجلس التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب.
– في عام 1982م أنتخب د. فتحي عرفات نائب الرئيس لمجلس وزراء الصحة العامة في بلدان عدم الانحياز.
في عام 2006م تم الاعتراف بالجمعية من قِبل جمعية الصليب والهلال الأحمر واللجنة الدولية للصليب الأحمر.
كان الدكتور/ فتحي عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح وعضواً في المجلس الوطني والمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية.
توفي د. فتحي عرفات بتاريخ 1/12/2004م بعد صراع مرير وطويل مع المرض حيث أصيب به قبل ثلاث سنوات وأجريت له عملية استئصال لجزء من أمعائه.
وبرغم الخسارة الكبيرة التي لحقت بالجمعية بفقدان مؤسسها ورئيسها الَّا ان النهج الذي رسمه الراحل وسار عليه طيلة حياته والمتمثل في هيكلية الجمعية ونظامها الأساسي وعقد المؤتمرات العامة سيبقى نبراساً تهتدي به كوادر الجمعية في عملهم الإنساني وأينما كانوا.
من أقوال د. فتحي عرفات:
نبني دولتنا على أسس حضارية حتى يتمتع شعبنا وأطفالنا بما تستمتع به شعوب العالم أجمع.
جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني ليست جمعية خيرية تقليدية كما يتبادر للذهن وإنما هي جمعية وطنية مناضلة أنشأها الشعب الفلسطيني في أواخر عام 1968م لتكون مسؤولة عن الخدمات الصحية والاجتماعية لشعبنا الفلسطيني داخل الوطن وخارجه.
لقد راكمت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني خلال مسيرتها الطويلة خبرات وتجارب لا تقدر بثمن في شتى التخصصات الصحية والاجتماعية ولديها كفاءات مشهود لها بالبراعة واستطاعت أن تنسج شبة علاقات واسعة على الصعيدين العربي والعالمي وظفتها لصالح شعبنا وقضيته العادلة.
رحمك الله يا د. فتحي عرفات واسكنك فسيح جنانه.
هذا وقد منح السيد الرئيس/ محمود عباس وسام نجمة الشرف من الدرجة العليا للفقيد د. فتحي عرفات تقديراً لدوره ونضاله في الدفاع عن وطنه فلسطين حيث تسلمت هذا الوسام زوجة المرحوم.