بقلم اللواء ركن عرابي كلوب
ليلة السابع عشر من شهر أيلول عام 1910م، وفد إلى هذا العالم مولود ذكر، من والدين فلسطينيين هما إلياس إبراهيم عياد وحنه إلياس بدرا، وحمل المولود اسم جده إبراهيم حسب رغبة والده إلياس الذي كان يعمل في مشغل للصدف، فأصبح اسمه الكامل هو (إبراهيم إلياس إبراهيم عياد)، كان هذا الطفل يتردد على الكنيسة في أيام الآحاد والأعياد، ويحاول المشاركة في التراتيل، حيث قيل أنه كان يمتلك صوتاً جميلاً، وقد لفت ذلك نظر كاهن الرعية، فشجعه على الحضور إلى الكنيسة للاستماع إلى الصلوات والمشاركة في التراتيل.
بالإضافة إلى تشجيعه على الحضور إلى الكنيسة والمشاركة في التراتيل كان يكلفه بإضاءة الشموع على الهيكل المقدس في الكنيسة كل يوم قبل إقامة الصلاة، ومن هنا فقد زرعت في ذهن الصغير فكرة الكهنوت، وعشق الكنيسةمنذ نعومةأظفاره،والتي تنامت مع الأيام في سنوات طفولته وصباه.
في شهر آب من عام 1928م، وكان قد بلغ الثامنة عشر من العمر وبتشجيع من كاهن الرعية ووالدته دخل إبراهيم المعهد الإكليركي الذي كان يتوزع ما بين بيت جالا والقدس.
كان إبراهيم شغوفاً بالمطالعة والاستزادة من الثقافة والمعرفة والإقبال على قراءة كتب الأدب ولذلك يعمد في الخفاء لشراء كتب لأدباء مشهورين من أمثال طه حسين ومصطفى لطفي المنفلوطي وغيرهما، ويذكر إبراهيم أنه ارتدى الزي الكهنوتي الأسود في عام 1933م مع بدء دراسته للاهوت والفلسفة في المعهد، وكان من المتفوقين في مادة الحق القانوني وباقي المواد اللاهوتية.
استمرت دراسته في المعهد الإكليركي في بيت جالا والقدس من عام 1928 وحتى عام 1937م حين تخرج من المعهد وغدا عندها مؤهلاً لدخول سلك الكهنوت.
وفي السابع والعشرين من شهر حزيران عام 1937م، تمت سيامة الشماس إبراهيم الياس عياد كاهناً في كنيسة (علية صهيون) في القدس، ومنذ ذلك الحين عرف واشتهر باسم “الأب إبراهيم عياد”.
وبعد سيامته كاهناً أقام في دار البطريركية اللاتينية في القدس، وكان للبطريركية مجلة دينية تصدر باسمها وتمثل لسان حالها تحمل اسم “رقيب صهيون” وكانت المجلة في البداية مختصة بالشؤون الدينية واللاهوتية وأخبار الكنيسة.
كتب الأب إبراهيم عياد مقالات في هذه الصحيفة، وكذلك صحيفة فلسطين، وصحيفة الدفاع التي كانت تصدر في يافا.
ذات يوم تم استدعاء الأب إبراهيم عياد من قبل البطريرك برلسينا، والذي كان الأب الروحي لإبراهيم عياد وطلب منه أن يدرس القانون وذلك حتى يقوم بالدفاع عن المظلوم، والتعمق في أمور الدين وأن دراسة القانون توسع مدارك الإنسان، هكذا وجد الأب إبراهيم عياد نفسه طالباً في معهد الحقوق الحكومي بالقدس، الذي كان قد تأسس حديثاً.
مع بدء الحرب العالمية الثانية عام 1939م، ونظراً لشغور مركز كاهن رام الله، فقد تم تعيين الأب إبراهيم كاهناً لرعية رام الله وكان ذلك في شهر حزيران عام 1940م.
كان الأب إبراهيم عياد يحب الاختلاط بالناس والاستماع إلى همومهم ومشاكلهم ويشاركهم في مناسباتهم المختلفة، وتبلور لديه توجه في هذه المرحلة للإسهام في مجالات أخرى إلى جانب عمله الكهنوتي سواء منها الاجتماعية أو التربوية أو الوطنية أو الإنسانية.
ومما يفخر ويعتز به الأب إبراهيم عياد في تلك المرحلة التي كان فيها كاهناً للرعية في رام الله أنه كان له شرف تأسيس الكلية الأهلية فيها كمدرسة ثانوية وكثاني مدرسة ثانوية في رام الله بعد مدرسة الفرندز.
كانت هذه هي الشرارة التي دفعت الأب إبراهيم عياد وآخرين إلى بدء التفكير الجدي بإيجاد مدرسة ثانوية بديلة يعتمدها الأهالي والطلاب وتراعي المشاعر العربية والتطلعات الوطنية وخاصة في مرحلة تنامي فيها الحماس الوطني والشعور القومي.
وهكذا مضى الأب إبراهيم عياد في تنفيذ الفكرة بكل الإيمان والحماس لتأسيس الكلية الأهلية، لقد سارت الكلية الأهلية في طريقها الصاعد في نمو مستمر وهي تؤدي رسالتها التربوية على أكمل وجه، وحتى غدت صرحاً تعليمياً وطنياً شامخاً يعتز به.
كذلك قام الأب إبراهيم عياد في تلك الفترة بتأسيس مجموعة كشفية لرعية اللاتين في رام الله تعاونت مع المجموعة الكشفية الأرثوذكسية في المدينة.
كان الأب إبراهيم عياد في منتهى السعادة لنجاحه في تأسيس الكلية الأهلية وتولى إدارتها، الا أنه فوجئ بعد مرور خمسة أشهر أن هنالك تفكيراً في البطريركية لتعيينه في منصب رئيس المحكمة الكنسية اللاتينية في القدس.
لم يملك الأب إبراهيم عياد سوى الاستجابة لرغبة رئيسه البطريرك الذي قام بعد ذلك بتسليمه كتاب التعيين في حفل رسمي في مقر البطريركية، وأستلم مهام منصبه كرئيس لمحكمة الكنيسة اللاتينية في القدس في الثالث من شهر كانون أول عام 1945م.
لقد كان معروفاً أن للأب إبراهيم عياد آراء سياسية واضحة جريئة، ومع ذلك فلم ينضم إلى أي حزب سياسي، لأنه أراد أن يكون فلسطينياً مستقلاً، يعمل من أجل فلسطين وشعب فلسطين دون قيود.
عام 1957م وحين شغر منصب رئيس المحكمة الكنسية اللاتينية في لبنان ومقرها بيروت طلب من الأب إبراهيم عياد تولي ذلك المنصب لخبرته السابقة في تولي رئاسة المحكمة الكنسية اللاتينية في القدس، فوافق وتم تعيينه في ذلك المنصب، فقام بواجبه في تطبيق القانون الكنسي خير قيام، أكسبه احترام الأوساط القانونية اللبنانية.
كما يذكر الأب إبراهيم عياد أنه في مطلع عام 1965م جاء كل من الأخ/ ياسر عرفات والأخ/ خليل الوزير لزيارته في بيروت وبعد بحث طويل أهتديا إلى مكان أقامته لأنهما كانا مصممين على مقابلته واستشارته في شأن فلسطيني هام، كان ذلك أول لقاء بينهما.
ونتيجة الحوار والنقاش الذي تجاوز الساعة والنصف تلاقت وجهات النظر على ضرورة العمل الجاد والمخلص لإخراج القضية من حيز الأونروا، ولإسماع صوت فلسطين للعالم، لأن القضية ليست قضية لاجئين، وإنما هي قضية شعب ظلم وشرد من وطنه.
كان هذا اللقاء في بيروت بدء علاقة الأب إبراهيم عياد بالمنظمة وقادتها.
في عام 1973م تم اعتماد الأب إبراهيم عياد كمستشار لمنظمة التحرير الفلسطينية لشؤون الفاتيكان وقد بقى حتى عام 1974، حين غادر إلى تونس حيث أصدر الرئيس عرفات قراراً بتعيينه في منصب المفوض الفلسطيني العام لدول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي والتي تضم 21 دوله.
منح الأب إبراهيم عياد من قبل الرئيس التشيلي أرفع أوسمة الشرف في التشيلي.
بعد عودة قيادة المنظمة إلى أرض الوطن عاد الأب إبراهيم عياد إلى الضفة الغربية لحضور اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني الذي عقد في غزة وذلك عام 1996.
كانت فرحة الأب إبراهيم عياد بعودته أخيراً إلى الوطن لا توصف والتقى الأهل والأصدقاء بعد فراق قسري أمتد عشرات السنين.
ورغم تقدمه في السن فقد أحتفظ الأب إبراهيم عياد بعضويته في كل من المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس المركزي، حيث أثبت نشاطاً وحضوراً متميزاً، وقد أعتبر شخصية وطنية مؤثرة ذات نفوذ واسع أكسبته مكانة مرموقة واحتراماً وتقديراً كبيرين لدى كافة المسؤولين المدنيين والأمنيين ولدى القيادة السياسية وكبار المسؤولين في السلطة الوطنية.
محطات كثيرة يمكن التوقف عندها في حياة الأب إبراهيم عياد الطويلة والتي امتدت إلى 94 عاماً، كانت حافلة بالنضال والعمل الوطني وبإسماع صوت فلسطين في المحافل الدولية في مشارق الأرض ومغاربها.
في أيامه الأخيرة وقد بلغ الرابعة والتسعين من العمر اعتلت صحته وهزل جسده حيث سرعان ما فارق الحياة وذلك يوم الثامن من شهر كانون الثاني 2005م في مدينة القدس، وجرى تشييع جثمان الأب إبراهيم عياد يوم الحادي عشر من نفس الشهر في موكب جنائزي رسمي وشعبي حاشد، وتم دفن الجثمان الطاهر في الساحة الواقعة غرب الكنيسة وبعدها تقبل البطريرك وآل الفقيد التعازي من جميع المشاركين.
لقد ضرب الأب إبراهيم عياد أروع الأمثال في تجسيد معاني المحبة والتضحية والعطاء وتعزيز التآخي الإسلامي المسيحي والوحدة الوطنية بين فئات الشعب الواحد، لتشكل قدوة تحتذي بها الأجيال ونبراساً ينير لنا الدروب لاستكمال مسيرة العطاء والنضال حتى بزوغ فجر الحرية والعدل والسلام.
رحم الله الأب إبراهيم عياد
المجد لله في العلا،،،،، وعلى الأرض السلام،،،،،،