بقلم اللواء ركن عرابي كلوب
رغم الاختلاف حول مكان ولادة ياسر عرفات وتاريخ الولادة بالضبط فإن المعلومات تدل أن ياسر عرفات (محمد ياسر عبد الرؤوف داوود عرفات القدوة الحسيني) قد ولد في الرابع من شهر آب 1929م وليس كما يشار إليه في بعض الكتب أن تاريخ ميلاده هو 24/8/1929م وفي مدينة القدس وليس القاهرة ولأسرة بسيطة من التجار حيث تزوج والده /عبد الرؤوف القدوة من السيدة /زهوة أبو السعود وأنجبا سبعة من الأولاد والبنات وهم على التوالي: ( أنعام – جمال – يسرى – مصطفى – خديجة – ياسر – فتحي ) .
والده كان تاجر أقمشة ويملك محل لبيع التحف الشرقية حيث كان يعمل ما بين القدس والقاهرة مروراً بغزة عند سفره للتجارة ، هاجر والده /عبد الرؤوف القدوة
ليستقر في القاهرة ، وهناك أمتلك محل لتجارة الحبوب والقطن وكانت أحواله ميسورة ، حيث سكن في شارع طور سيناء رقم (5) في حي السكاكيني في القاهرة .
توفيت والدة ياسر عرفات وتدعى السيدة /زهوة أبو السعود وهو في الخامسة من العمر حيث أرسل مع شقيقه الأصغر فتحي ليعيشا مع خالهم سليم أبو السعود ، وكانت شقيقتهم الكبرى أنعام تساعد في تربيتهما ، وكان خاله متزوج من السيدة / رقية مغربية الجنسية ولم يرزقا بأطفال .
بعدها تزوج والده السيدة /فاطمة الزهراء حمدي وهي مصرية الجنسية وأنجب منها كل من الأبناء: ( محسن _ ميرفت _ مديحة ) حيث كان يقيمان في القاهرة في ذلك الوقت .
تفتحت عينا ياسر عرفات على مدينة القدس التي تعبق بالتاريخ وتجللها القداسة في كل مكان ، حيث كانت القدس موضع أطماع الغزاة منذ زمن بعيد ، وتعتبر القدس من أشهر المدن السياحية وهى محط أنظار سكان العالم أجمع، يؤمها السياح لزيارة الأماكن المقدسة والأماكن التاريخية فيها فهي تضم العديد من المواقع الأثرية ففيها: مسجد الصخرة ، المسجد الأقصى ، حائط البراق، المسجد العمري، كنيسة القيامة.
أمضى بعض طفولته في مدينة القدس وفي عام 1937م رحل ياسر عرفات وشقيقه فتحي إلى القاهرة مع خالهما راجي أبو السعود بعد أن تم اعتقال خاله سليم أبو السعود من قبل الاحتلال البريطاني.
أنفق والده الأموال الطائلة لتأكيد حقه في بعض العقارات المتنازع عليها في القاهرة والتي قامت والدته المصرية وهى من آل رضوان بتركها في حي العباسية .
توفى والده في مدينة خان يونس في قطاع غزة بتاريخ 19/7/1954م بعد أن قامت السلطات المصرية بإبعاده عن الأراضي المصرية وذلك بسبب القضايا التي رفعها مطالباً باسترداد أمواله المصادرة .
التحق ياسر عرفات لدراسة الهندسة في جامعة فؤاد الأول ليتخرج منها كمهندس مدني ، وهناك بدا حياته السياسية حيث شارك في تأسيس اتحاد طلبة فلسطين وبعد نجاح الثورة المصرية في عام 1952م ترأس رابطة الخريجين الفلسطينيين وقد أبدى ميولاً لجماعة الإخوان المسلمين .
بعد نكبة عام 1948م بدأت فكرة الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي تراوده ، وفي عام 1953م خاطب ياسر عرفات أول رئيس للجمهورية المصرية آنذاك اللواء /محمد نجيب وقد كان خطاباً مختصراً من ثلاث كلمات فقط : ( لا تنسى فلسطين ) .
دخل ياسر عرفات المعترك الطلابي ورأس الرابطة خلال الفترة من 1956-1951م وكان معه كل من صلاح خلف وعبد الفتاح حمود وزهير العلمي أعضاء في الهيئة الإدارية في الرابطة وضموا معهم عن الإخوان المسلمين هاني بسيسو.
أصبح ياسر عرفات معروفاً على مستوى الحركة الطلابية العالمية منذ عام 1951م، وشارك في مؤتمرات ومهرجانات طلابية في دول عدة مثل: بلغاريا ، الاتحاد السوفييتي ، تشيكوسلوفاكيا ، بولندا ، وألمانيا الشرقية ، وإنشاء شبكة واسعة من العلاقات والصداقات والتحالفات .
ياسر عرفات هو أول من دخل إلى وراسو عام 1955م مع زملائه من رابطة الطلاب الفلسطينيين .
انخرط ياسر عرفات في الجيش المصري كضابط احتياط وشارك في القتال إثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م .
انتقل ياسر عرفات إلى الكويت عام 1957م ليعمل مهندساً في وزارة الأشغال العامة وبعدها أنشاء مع رجل أعمال مصري شركة بناء أثناء وجوده في الكويت بدأ العمل على تشكيل أول خلايا حركة فتح وذلك في عام 1957م .
أسس أواخر الخمسينات من القرن الماضي مع كل من أبو جهاد وأبو يوسف النجار وأبو إياد وخالد الحسن ومحمود عباس وعادل عبد الكريم وعبد الله الدنان وكمال عدوان وعبد الفتاح حمود وآخرين حركة التحرير الوطني الفلسطيني/ فتح .
وفي عام 1963م سمحت الجزائر الشقيقة بفتح أول مكتب لفلسطين في العاصمة الجزائرية حيث تولى مسؤوليته الأخ / أبو جهاد وفي آذار عام 1964م سافر ياسر عرفات وأبو جهاد إلى الصين الشعبية بدعوة من القيادة الصينية .
في عام 1965م كانت لحظة تاريخية مفصلية في عمر الشعب الفلسطيني عندما امسك ياسر عرفات وثلة من رفاقه الميامين بالحلقة المركزية لنضالنا الوطني وذلك في الأول من كانون ثاني عام 1965م حيث انبثقت على أيديهم وهج الرصاصة الأولى لانطلاقة حركة فتح ، والتي كانت تعبيراً عن شغف عارم إلى كسر جدار الصمت والخزي في رحلة التيه ، فشكلت بذلك إنعطافة تاريخية حادة في مسيرة هذا الشعب الذي ما أنفك يبحث عن حريته واستقلاله .
بعد الانطلاقة بحوالي العام وخمسة أشهر حدثت أزمة مقتل النقيب البعثي/ يوسف عرابي بتاريخ 9/5/1966 م والذي أراد عمل انقلاب داخل الحركة قي ذلك الوقت وعلى أثرها تم اعتقال كل من الأخوة : ياسر عرفات ، أبو جهاد ، أبو صبري ، أبو علي إياد ، أبو العبد العكلوك ، زكريا ،عبد الرحيم ، مختار بعباع ، عبد المجيد الزغموط حيث مكثوا في السجون السورية لأكثر من ثلاثة أشهر ، وكادت هذه الأزمة أن تقضي على حركة فتح وإلى الأبد ، وتعصف بالحركة في مراحلها الأولى حيث وضعت حركة فتح في دائرة الخطر وفي مهب الإعصار .
بعد هزيمة عام 1967م قرر ياسر عرفات الدخول إلى الضفة الغربية حيث أستقر في مدينة نابلس وذلك للإعداد للانطلاقة الثانية لقوات العاصفة ، حيث أتخذ منها وريفها مقراً لقيادته وعرفه الفلاحون وأهل المدينة باسم الحاج /أبو محمد وبدأت له نابلس قاعدة مثالية للعمل الفدائي ، لم يمكث ياسر عرفات طويلاً في الضفة الغربية وانكشف أمره وتعرض للملاحقة والمطاردة من قبل الاحتلال الإسرائيلي في المدن والريف وغادر الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن وأقام قواعد مقاتلة لحركة فتح على امتداد الحدود الأردنية _الإسرائيلية ، وأصبحت منطقة الأغوار الأردنية ومرتفعات مدينة السلط وأحياء مدينة عمان ومخيمات اللاجئين والنازحين الفلسطينيين ميداناً لنشاطه السري والعسكري .
بتاريخ 21/3/1968م أقدمت إسرائيل على شن حرب علي قواعد الثورة الفلسطينية في الضفة الشرقية من نهر الأردن تحت وابل من القصف والطائرات وذلك للقضاء على الثورة الفلسطينية بعد أن تعرضت لخسائر كبيرة من جراء العمليات الفدائية داخل الوطن المحتل فأقدمت على اجتياح بلدة الكرامة وقد تصدى لها المقاتلون الفلسطينيون وقيادتهم وعلى رأسهم الأخ أبو عمار مع أخوانهم في الجيش الأردني البطل وكبدوا العدو خسائر فادحة في المعدات والأرواح وكانت هذه المعركة أولى انتصارات الثورة الفلسطينية حيث تم بعدها تعيين ياسر عرفات ناطقاً رسميا لحركة فتح وذلك في شهر إبريل عام 1968م وقام بزيارته الشهيرة إلى الاتحاد السوفيتي ضمن الوفد المصري الذي كان يترأسه الزعيم الراحل /جمال عبد الناصر .
في عام 1969م تم انتخاب ياسر عرفات رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال انعقاد دورة المجلس الوطني الفلسطيني الذي عقد في القاهرة .
وفي عام 1970م حدثت أحداث أيلول المؤسفة بين قوات الثورة الفلسطينية والجيش الأردني سقط على أثرها الآلاف من القتلى والجرحى وبعدها بعام حصلت أحداث جرش وعجلون في تموز 1971م مما أدى إلى خروج قوات الثورة الفلسطينية من الأراضي الأردنية .
وبتاريخ 29/1/1974م أعلنت القمة العربية المنعقدة في الرباط بالمملكة المغربية أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ، وعلى أثر ذلك وبتاريخ 13/11/1974م سافر ياسر عرفات إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتحدث للمرة الأولى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك قائلاً: (أتيت إلى هنا حاملاً غصن الزيتون بيد وبندقية المقاتل من أجل الحرية في الأخرى، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي ) ، بعدها منحت منظمة التحرير الفلسطينية صفة مراقب في المنظمات الدولية .
أثناء اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975م وقف ياسر عرفات في صف القوى التقدمية والوطنية اللبنانية .
وفي عام 1982م وخلال اجتياح القوات الإسرائيلية للأراضي اللبنانية وحصار المقاومة لمدة ثلاث أشهر، ادار عرفات معركة الصمود و التصدي في بيروت مع اخوانه قادة الثورة الفلسطينية وأكتسب ياسر عرفات احترام شعبه بصموده وشجاعته ووافق في 20أغسطس عام 1982م على الخروج من لبنان تحت الحماية الدولية ومن ثم انتقل إلى تونس التي شكلت المعقل الأخير ل. م.ت.ف حتى العام 1994م العودة إلى أرض الوطن .
عام 1983 م تصدي للمنشقين و القوات السورية في طرابلس لبنان و حافظ علي القرار الوطني المستقل.
عبر مسيرته النضالية الطويلة ، راكم ياسر عرفات خبرة سياسية غنية ورصيداً نضالياً كبيراً ، لا يمكن لأي باحث تجاوزهما ، وبهذا الرصيد وتلك الخبرة عزز عرفات مكانته في صفوف الفلسطينيين وتفرد في قيادة السفينة الفلسطينية وسط البحور الهائجة التي عبرتها ، ونجح وبجدارة على إحكام سيطرته على الوضع الداخلي الفتحاوي الخاص والفلسطيني بشكل عام وفرض مواقفه وتوجهاته السياسية والتنظيمية على عموم الحركة الوطنية الفلسطينية لسنوات طويلة .
لقد كان ياسر عرفات رمزاً للنضال الوطني وضد الوصاية والاحتواء والتبعية للحركة الوطنية الفلسطينية .
كان أبو عمار النجم الأبرز في سماء قوى التحرر الوطني والاستقلال في العالم اجمع .
ياسر عرفات القائد والمعلم ، أبن فلسطين ورمزها ، صانع حركتها النضالية الوطنية المعاصرة ، وبطل كل معاركها من أجل الحرية والاستقلال.
كان ياسر عرفات دائماً محفوفاً بالمخاطر لكنه كان إنساناً قدرياً يؤمن بقضاء الله وقدره ، كما أنه كان حذراً جداً ويعتمد على إحساسه الشخصي لتأمين تحركاته وتنقلاته ، تعرض ياسر عرفات لعشرات المرات للاغتيال طيلة قيادته سفينة العمل النضالي ، بعضها كان مباشراً عن طريق قصف مقراته ومراكز قيادته في لبنان أو تونس أبو بعضها عن طريق إطلاق النار عليه من قبل العملاء والمؤجرين أو دس السم له في طعامه أو تفجير سيارته .
كان أبو عمار شجاعاً يواجه أصعب اللحظات حتى ولو كانت تحمل موتاً شبه محقق له .
جمع أبو عمار بين رباطة الجأش والعطف ، كما جمع بين القوة واللين الذي لا يملكها إلا المؤمن الأصيل ، كان مؤمناً متديناً يؤدي فروضه الإسلامية في وقتها .
كان كغيره من أبناء وطنه لم يتخلى يوماً ما عن حلم كان يراوده وهو تحرير الوطن والعودة إليه
في نهاية عام 1987م بدأت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في قطاع غزة والضفة الغربية وكان يتابعها لحظة بلحظة مع الشهيد القائد / خليل الوزير ( أبو جهاد ).
وفي عام 1988م وإثناء انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في العاصمة الجزائرية تلى ياسر عرفات وثيقة إعلان استقلال دولة فلسطين .
أما عام 1992م وأثناء عودته من زيارته إلى السودان وتوجهه إلى تونس عن طريق الصحراء الليبية فقد سقطت طائرته في الصحراء الليبية بتاريخ 6/4/1992 ونجا من الحادث بأعجوبة هذا هو ياسر عرفات صاحب العمر الطويل حيث استشهد ثلاثة من طاقم الطائرة في الحادث.
في العام 1993م وتحديداً في الثالث عشر من سبتمبر وبعد مفاوضات سرية في أوسلو وقع كل من ياسر عرفات وإسحاق رابين في واشنطن اتفاق أوسلو حيث سمح بموجب هذا الاتفاق بممارسة الحكم الذاتي في قطاع غزة وأريحا أولاً مقابل اعتراف م.ت.ف بإسرائيل، وعلى أثر ذلك عادت طلائع قوات منظمة التحرير الفلسطينية في شهر مايو عام 1994م إلى قطاع غزة وأريحا، ويوم 1/7/1994م خرجت جماهير غزة عن بكرة أبيها لاستقبال قائدها والعائدين معه .
بتاريخ 20/1/1996م انتخب ياسر عرفات رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية في انتخابات ظل يفتخر دوماً بأنها كانت حرة وشفافة، وفي عام 1997م وقع اتفاقية استلام معظم مدينة الخليل مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وكذلك وقع عام 1998م على اتفاقية ( واي ريفر ) لانسحاب تدريجي لإسرائيل من الضفة الغربية .
وبتاريخ 25/07/2000م شهد منتجع كامب ديفيد الأمريكي قمة ثلاثية ضمت الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل أيهود باراك والرئيس الأمريكي بل كلينتون ، رفض خلالها ياسر عرفات تقديم أي تنازلات عن الحقوق الشرعية الفلسطينية .
وبتاريخ 28/9/2000م اندلعت انتفاضة الأقصى وتوقفت عملية السلام حيث فرض شارون في نهاية عام 2001م حصاراً شديداً على الرئيس ياسر عرفات داخل مقره في المقاطعة في مدينة رام الله ، وفي آذار عام 2002م قام الجيش الإسرائيلي بأوسع عملية عسكرية باقتحام جميع مدن الضفة الغربية وحاصرت الدبابات الإسرائيلية عرفات في مقره بالمقاطعة .
وخلال العام 2004م بدأ العالم يسمع عن تعرض الرئيس ياسر عرفات لإرهاق وتعب وهو الذي تجاوز من العمر 75عاماً .
رحلة الكفاح الطويلة لم تشهد نهايتها استسلاماً للاحتلال الإسرائيلي وإنما إصراراً على التمسك بالثوابت، لقد أشتد المرض عليه مؤخراً مما دعا الأطباء إلى اتخاذ قرار نهائي بنقله إلى مستشفى (بيرسي ) العسكري في باريس وذلك بعد أن بدأت الحالة الصحية للرئيس ياسر عرفات بالتدهور السريع حيث نقل يوم 27/10/2004م إلى عمان ومنها إلى باريس للعلاج بعد أن وافق على رأي الأطباء نقلته طائرة مروحية أردنية من رام الله إلى مطار عمان ومن ثم إلى فرنسا حيث أجريت له العديد من الفحوصات والتحاليل الطبية في مستشفى ( بيرسي ) العسكري ، ظل ياسر عرفات يصارع مرضه إلى أن أسلم الروح لبارئها في الساعة الرابعة والنصف من فجر الخميس الحادي عشر من نوفمبر 2004م .
ودعته فرنسا يوم 11/11/2004م بما يليق بمكانته الدولية وأقلت جثمانه طائرة حكومية فرنسية للقاهرة وهناك أقيمت للشهيد ياسر عرفات جنازة عسكرية مهيبة بمشاركة رسمية من معظم ملوك ورؤساء الدول العربية وبحضور واحد وستون دولة من القادة والمسؤولين العرب والأجانب .
وفي رام الله يوم الجمعة الموافق 12/11/2004م حطت مروحيتان مصريتان عسكريتان احدهما تقل جثمان الشهيد أبو عمار على المهبط الرئيس في رام الله الذي حوصر فيه وودع عشرات الآلاف من المشيعين قائدهم التاريخي الزعيم الشهيد/ياسر عرفات في مقر الرئاسة ووضع جثمان الشهيد القائد في ضريح خاص في ساحة مقر الرئاسة ليدفن فيه مؤقتاً لأن الشهيد أبو عمار قد أوصى بدفنه في باحة الحرم القدسي الشريف بعد تحريره .
وبعد أيام من الوفاة أشار طبيب عرفات الذي يعرف ملفه الطبي أن ثمة مؤشرات قوية على أن عرفات تعرض للتسمم وطالب بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة للبحث في أسباب الوفاة والقيام بعملية تشريح التي لم تجرِ على الجثة بعد الوفاة مباشرة .
ياسر عرفات مضى إلى جوار ربه من دون أن يستسلم ، كان طيلة حياته ضمير شعبه الحي وكلمته الحرة المعبرة الصادقة في تحدي الموت، كان ملئ الدنيا وشاغل الناس والدول ، فكان جزاؤه نبذاً من أمريكا وإسرائيل ونعم الجزاء .
لقد حاصروا ياسر عرفات في الجغرافيا، فحاصرهم في التاريخ، وحصار التاريخ هو دائماً المنتصر حتماً وأبدا ، ولا شك بالنصر المبين .
لقد مات ياسر عرفات والمفتاح والقلم بيده ولن يستطيع كائناً من كان أن يتنازل عن الثوابت الوطنية والقومية التي تمسك بها عرفات ، فعوقب بسبب ذلك سجناً ، ثم إعداماً بطيئاً يظهر من خلاله الحقد والخسة .
في يوم وفاته بكت فيه فلسطين كل فلسطين وتوشحت بالسواد حداداً وحزناً وألماً يعتصر كل القلوب والأفئدة على استشهاد قائد الثورة ومفجرها وصاحب القرار الصعب القائد الرمز الخالد فينا أبداً ياسر عرفات ، صاحب العطاء المتواصل والمؤسس .
كم نحتاجك يا قائدنا في هذا الزمن الرديء وفي هده الأيام العصيبة ، نحتاج إلى عطائك وإلى حنان الأب لأبنائه ، نحتاجك إلى لم الشمل الفلسطيني الذي تشتت.
ظل ياسر عرفات رمزاً لنضال الشعب العربي الفلسطيني منذ أن أعلن بنفسه عن تحديد هويته ، وعن تسلمه مقدرات وطنه وقضيته ، كما ظل رمزاً لوحدة هذا النضال في تعدد اتجاهاته وسبله ، سيبقى ياسر عرفات خالداً فينا ، فهو رمز التجدد رغم النكسات والإنكسارات والاحباطات .
ياسر عرفات كان رجل القرار الوطني المستقل وكم كلفه هذا القرار من تبعات و مشاكل مع عديد من الدول.
ياسر عرفات لم يسقط شهيداً ، ولكنه كان الشهيد الحي طيلة حياته ، إنه ياسر عرفات القائد التاريخي الفذ الذي نفتقده بشدة الآن ونستشعر وطأة خسارتنا له اليوم ، ليس لأنه هو الرئيس الشرعي المنتخب فحسب ، ولا هو القائد التاريخي فقط ولا هو رئيس حركة فتح ورئيس المنظمة ليس إلا، بل هو فوق ذلك كله موحد هذا الشعب وزعيمه ، حادي هذا الركب الذي شق الدرب من العدم إلى الانبعاث ، وهو ربان السفينة المقدام الذي عبر بها البرزخ الضيق من دنيا الشتات إلى أرض الوطن، ومن دائرة الإهمال إلى مركز الاهتمام ، ومن غياهب التاريخ إلى حقائق الجغرافيا وظل كذلك الرقم الصعب .
أبو عمار ليس أسطورة، إنه حكاية شعب سيبقى يرويها الأجداد للأحفاد والبندقية لن نقبل أن يكون بدلاً منها إلا غصن الزيتون هذا ما حمله أبو عمار ذات يوم من عام 1974م إلى الجمعية العامة في الأمم المتحدة ، وهذا ما سيستمر ما دام هناك طفل يولد في صبيحة كل يوم جديد.
لقد كان أبو عمار أكثر من قائد ومن رمز ومن مناضل ومن فارس ، كان مدرسة بحد ذاته كاملة تخرج القادة والرموز والمناضلين الأوفياء والفرسان الشجعان ، ولا تخشى هذه المدرسة أن تخرج منها ثغرات أو أخطاء وخطايا ما دامت قادرة على التعلم منها ؟ أليست المدرسة هي مكان للتعلم ؟
ياسر عرفات قائد وطني كبير أخطأ وأصاب ، وكان في بعض المراحل يجمع الداء والدواء ، والمشكلة والحل ’ والحرب والسلام ، لقد كان زعيماً أسطورياً .
لقد ختم ياسر عرفات بطريقة تليق بقائد أخلص لتطلعات وآمال شعبه وحرص على عدم التفريط بحقوقه الوطنية ، قائد حاول أن يحقق لهذا الشعب المجاهد الصابر المثابر الاستقلال والحرية ، ولكن الظروف والمتغيرات السياسية كانت اكبر منا جميعا ً لقد كانت وصية ياسر عرفات هي مواصلة الكفاح من أجل الاستقلال الوطني وكرامة شعبنا الذي يرزح تحت نير الاحتلال والمشتت في مختلف أسقاع العالم ، إن أرث ياسر عرفات هو ملك للشعب الفلسطيني وملك للتاريخ .
هذا هو ياسر عرفات الذي خرج من المقاطعة من رام الله وغادر وطنه في الرحلة الأخيرة وهو يرفع إشارة النصر ويوزع القبلات الهوائية على أبنا شعبه ، وعاد إليهم محمولاً على أكف رفاقه ليوارى الثرى الذي كان يحلم بقيام دولتنا الفلسطينية فوقه وعاصمتها القدس الشريف .
إن الصفات الإنسانية هي التي تصنع القائد وليس المواقف الكبيرة فقط ، ولقد كان أبو عمار إنساناً قبل أن يكون قائداً .
لقد كان شغله الشاغل هي فلسطين ، كانت حلمه والدولة الفلسطينية كانت هاجسه ومسعاه ، أيها الرئيس القائد ، أيها الرمز الخالد فينا أنها لحظات قاسية على شعبك الذي أحبك والذي كان في استقبالك بتاريخ 1/7/1994م عندما عدت إلى أرض الوطن للمرة الأولى خرج عشرات الآلاف ، واليوم وفي هذا الوقت المثخن بالجراح إنها لحظات قاسية على شعبنا أمام مشهد الوداع الأبدي والأخير فقد كنت أكبر من أي حصار .
لقد مثل ياسر عرفات الفكر المنفتح السهل الذي يسمح ويستفيد ولا يقصي أحداً ، فكانت رحابته بارزة في حرصه على تعدد الآراء واحتضانها واحترام المخالفين في ديمقراطية مارسها كما كان يقول: ( في ظل غابة البنادق ).
أسطورة القائد ياسر عرفات اكتملت لكن الاسطورة الفلسطينية لا تزال تبحث عن اكتمالها، أسطورة القائد اكتملت بموته، أما أسطورة الوطن فلا تكتمل إلا في تحقيقه والحكاية لا تزال طويلة وتحتاج إلى الصبر والكثير من الإرادة.
منح الزعيم الخالد ياسر عرفات العديد من شهادات الدكتوراه الفخرية تقديراً لنضاله الوطني ، كما منح العديد من الأوسمة ومنح جائزة نوبل للسلام.
إن حياة الشهيد ياسر عرفات جزء هام من حياة حركة فتح والثورة الفلسطينية المعاصرة ومنظمة التحرير الفلسطينية وإن تاريخ حركة فتح لا يكتمل أبداً دون ذكر القائد الشهيد الرمز فهو مشعلاً من المشاعل التي أضاءت لنا الطريق وسارت على درب التحرير وقضت من أجل هذا الوطن وقضيته الماجدة وإعادة الحق إلى أصحابه.
رحمك الله يا أبا عمار وأسكنك فسيح جنانه مع النبيين
و الصديقين و الشهداء و حسن اولئك رفيقاً ..
واننا علي العهد لباقون و سلام علي روحك الطاهرة .